غزة تُضيء الأحلام- من النكبة إلى طوفان الأقصى، أجيال المقاومة.

المؤلف: أحمد الشيخ11.18.2025
غزة تُضيء الأحلام- من النكبة إلى طوفان الأقصى، أجيال المقاومة.

في البدء، لا يسعني إلا أن أعرب عن بالغ أسفي وندمي العميقين، جراء الخطأ الفادح الذي اقترفته في مقال سابق. هذا الخطأ، الذي لن يمحى أثره من ذاكرتي أبدًا، تمثل في اقتباس جزء من نص مترجم زُعم أنه مأخوذ من مقال لكاتب بريطاني، نُشر في صحيفة بريطانية مرموقة. ولكن، بعد التحقق، تبيّن أن هذا الزعم محض افتراء، وأن المقال المنسوب كذبًا لم يُنشر أصلًا. وقد أخطأت عندما استشهدت بهذا النص الزائف في مقالي، إذ تسرعتُ في النشر، واثقًا بالشخص الذي أرسل لي المعلومة، دون أن أكلف نفسي عناء البحث والتدقيق. لا أملك الآن إلا أن أتقدم بخالص الاعتذار، وأن أتعهد بالتعلم من هذا الدرس القاسي، فليس في الاعتراف بالخطأ منقصة، بل هو خطوة نحو التصويب. أرجو من الله المغفرة، ومنكم الصفح والعفو.

قد لا أجد مبررًا أو تفسيرًا مقنعًا لخطأ جسيم كهذا، يرتكبه شخص أمضى عمرًا مديدًا في العمل الصحفي، إلا التسرع المفرط والثقة الزائدة عن الحد في المصدر. لقد وقعتُ في هذا الشرك، على الرغم من إدراكي التام بأن المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي غالبًا ما تكون غير موثوقة، وتستوجب التحقق الدقيق قبل نشرها. ولكن، طبيعتنا البشرية تحمل النقص والضعف، ولا يسلم أحد من الخطأ، فمن المستحيل علينا أن نبلغ مرتبة الكمال المطلق، فهي صفة ملازمة لله وحده. لقد خُلقنا على هذه الشاكلة كي نسعى دائمًا نحو الارتقاء بالنفس، والإتقان في العمل، والإحسان في كل ما نفعله، وهي أعلى مراتب العمل الإنساني وأجلّها.

تصحيح المسار

هكذا هي الحياة، سلسلة من المحطات والدروس التي نتعلم منها، حتى من خلال أخطائنا وعثراتنا. وكلما تقدم بنا العمر واسترجع المرء منا ذكريات الماضي، تمنى لو أنه لم يقدم على فعل بعض الأمور، ولكن هيهات، فما فات قد فات. الأهم هو تعديل المسار، وتقويم الاعوجاج، وتصحيح المنهج عندما يبتعد عن الصواب، حتى يتمكن المرء من نقل تجربته بأمانة وإخلاص لمن يأتي بعده، لعلهم ينتفعون بها ويتجنبون الوقوع في الأخطاء نفسها.

أنا العبد الفقير إلى الله، أنتمي إلى جيل النكبة، فقد ولدت بعد وقوعها بعام أو يزيد قليلًا، وعشت آلامها وذاقت نفسي مرارة أوجاعها طفلًا وصبيًا وشابًا. وما زلت، وقد بلغت منتصف العقد الثامن من عمري، أتألم بشدة وأنا أرى أمة بأكملها لا تحرك ساكنًا لنجدة غزة وفلسطين. ما أعمق هذا الجرح! ولا يعرف مدى فظاعته إلا من قضى عمره محرومًا من نعمة الوطن المستقل.

بعد منتصف الخمسينيات، أصبحت صبيًا يافعًا أرعى الأغنام مع رفاقي، نسوق صغار الماعز والخراف إلى الوديان الخضراء وإلى قمم التلال والجبال الشامخة. وفي أحد الأيام الصافية، بينما كنا نقف على قمة جبل المزار شمال قريتنا، رأينا زرقة مياه البحر المتوسط تتلألأ في الأفق البعيد. وإذا صعدنا في يوم آخر قبل غروب الشمس، كانت أشعة الشمس الذهبية تنعكس على سطح الماء، في منظر يخطف الألباب. كنت أمعن النظر في البحر، وأحاول أن أتخيل الشاطئ الرملي والأمواج المتلاطمة، فلم يسبق لي أن رأيت بحرًا من قبل، ولم تطأ قدماي شاطئًا قط.

وكل ما عرفته وسمعته عن ذلك البحر وتلك الشواطئ في فلسطين، كان مجرد بضع عبارات وشهادات عيان، كان جدي يرويها لنا، فقد كان يرعى الغنم فوق تل الربيع قبل أن يتحول اسمه إلى تل أبيب العبرية، وأبيب هي النطق المعرب لكلمة "أفيف" العبرية، ومعناها الربيع إذا أردت ترجمتها إلى العربية.

كبر الصبي، وكلما اتسعت معارفه في المدرسة عن "الوطن السليب"، كما كنا نطلق عليه، اتسعت آفاق خياله وما فيه من صور ومشاهد حية. كان يتخيل يافا وشواطئها الفاتنة، وعكا وأسوارها العتيقة، وطبريا ومياهها الصافية النقية، واللد ومطارها، وحيفا ومينائها الحيوي، وجبال الجليل الشامخة وعزتها، ومرج ابن عامر الخصيب بخيراته الوفيرة، والسهل الساحلي بجماله الباهر، وغزة وعزيمتها التي لا تلين، والنقب وقبائله الأصيلة، وأم الرشراش ودفئها، وبيارات البرتقال بعبيرها الفواح. كان يتخيل كل شبر من أرض الوطن المسلوب منذ أن ولد!

كم تمنيت من أعماق قلبي لو أنني أستطيع أن أسوق قطيع أغنامي يومًا وأرعاها فوق تل الربيع، وأن أنام حيث كان جدي ينام. كم تمنيت لو أنني أتقن السباحة في البحر، فأعوم في المياه التي تغسل يافا فيها أقدامها. كم تمنيت لو أنني أصعد إلى قمة جبل الجرمق الشاهق، الذي تعلمنا أنه الأعلى في فلسطين. كم تمنيت لو أنني أرى الكرمل وميناء حيفا الشهير. كم تمنيت وحلمت، ثم استيقظت من حلمي الجميل في يونيو/حزيران عام 1967، وأنا شاب يافع، وقد وئدت كل أحلامي، وأصبح الوطن بأكمله مستلبًا ومحتلًا.

حقيقة مُرة

بعد شهور قليلة من ذلك التاريخ المشؤوم، أصبح بإمكاني أن أعبر إلى الأماكن التي طالما تمنيت رؤيتها. استقليت حافلة من حافلاتهم وذهبت. مررنا بكفر قاسم ورأس العين واللد والرملة حتى وصلنا إلى يافا وتل أبيب.

هل تحققت أحلامي؟ أم ليتها ظلت دفينة في الخيال، فالحلم الدفين المَوْؤُود أرحم وأقل إيلامًا من الواقع المرير الذي رأيته بأم عيني. على الشواطئ، رأيت قومًا جاحدين ناكرين، حتى الرمل يستنجد بمن يخلصه من وطء أقدامهم الثقيلة. وعلى تل الربيع، حيث رعى جدي أغنامه، رأيت عمرانًا غريبًا دخيلًا على الأرض والتاريخ.

اختفت بيارات البرتقال، واختفى سوق اللد الصاخب، واختفت ألوف الجمال ورؤوس الماشية التي كانت تُساق إليه من أصقاع الجزيرة العربية والهلال الخصيب. اختفت مئات القرى، فلم يعد لها من أثر يُذكر. اختفى العقال والقمباز، ودماية السرتلي وارد الشام وحلب. اختفت الأزياء النسائية التقليدية الجميلة بألوانها الزاهية وتطريزها المتقن. صمتت الزغاريد وتكبيرات المآذن. وسكتت صيحات الباعة والمتسوقين.

هل تحقق شيء من أحلامي الأولى؟ كلا! ما هكذا تتحقق الأحلام، ولا أنا وجيلي من أولئك الذين يمكن لهم القول إنهم حققوها.

مضت الأيام كما قدر الله لها أن تمضي، ولا نملك القدرة على إيقافها أو تغيير مسارها. غادر الشاب الأمرد القرية الوادعة، والمراعي الخضراء، والشُويهات التي أحبها وعشقها، وما زال قلبه يحنّ إلى صوت ثغائها. وغاب وراءه جبل المزار الشامخ، وتعامير التين والزيتون المباركة، وبيادر الغلال الذهبية. غاب منظر أمي وهي تنسج الأطباق الملونة من قش بيدرنا، وتزينها بأجمل الأصباغ. غابت ورائي كف يد أبي الخشنة وهي تقبض على كابوس المحراث، وتناهى إلى مسامعي صوت خشخشة المناجل في مواسم الحصاد.

غاب خوار بقراتنا، ونهيق حمارنا، وعواء كلاب حيّنا، ونقيق دجاجاتنا، ودُخَان التنور (الطابون) الذي كان يملأ الفضاء بعبقه ورائحته المميزة.

غابت تواشيح أبي محمود على الربابة في الديوان ليالي الصيف المقمرة. غاب العيد وتكبيراته وأضاحيه، وقبر جدي وجدتي وأخي، كنا نزورهم بعد صلاة العيد، وكم كان القرش في العيد خيرًا وفيرًا ننتظره بفارغ الصبر.

تساؤلات مُلِحّة

غابت أشياء كثيرة، وتحولت إلى مجرد صور باهتة تكتنزها الذاكرة. أما الأحلام العتيقة، فقد ظلت حبيسة في القلب، يخشى صاحبها أن يبوح بها في الغربة، ولا يسمح لها بالتحقق في دنيا الاغتراب. وحتى حين يعود صيفًا إلى الوطن، لا تتقد تلك الأحلام كما كانت تفعل في الصبا، وقبل أن يُسْتَلَبَ الوطن كاملًا. كان الاحتلال الغاشم يضغط بكل قوته لطمسها وإخمادها، من خلال حواجزه العسكرية، وسجونه المكتظة، وتحقيقاته المتواصلة، وأفعال عملائه القذرة. وكانت إخفاقات الثوار ورموزها أشد وطأة في أحيان كثيرة على تلك الأحلام، وربما تدفع صاحبها إلى القنوط واليأس.

انتعشت الأحلام قليلًا حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ولكنها ما لبثت أن تراجعت وانكمشت حين دخلت القيادات الرموز على الميدان، وأفسدت بالمال كل شيء جميل. ومع ظلام أوسلو الدامس، لم يعد الواحد منا يتبين الطريق الصحيح.

لم يكن ذلك حالي وحدي، بل كان حال أجيال وأجيال، لا بد أن تسأل اليوم أنفسها بصدق وإخلاص: لماذا فشلنا نحن أهل الأرض أولًا؟ ولماذا فشلت الأمة العربية والإسلامية من حولنا في نصرتنا؟ وكيف نخرج من وَهْدتنا العميقة؟ وماذا يجب علينا أن نفعل لكي نغير هذا الواقع المرير؟

ظلت هذه الأسئلة حائرة ملحة، حتى أضاءت غزة العزة الدنيا بنور "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. قال لنا حامل قذيفة الياسين الجواب يسير ومباشر وواضح: المقاومة هي الحل. وقال لنا طفل من غزة يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب: الهوية هي الأساس. وقالت لنا أم صابرة من غزة: التوكل على الله هو النجاة. قالت لنا غزة بصوت واحد موحد: ادخلوا عليهم الباب وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد.

هذه هي الأجيال التي يحق لها أن تقول بثقة وإيمان: ها نحن بدأنا نحقق أحلامنا، إنهم أجيال الطوفان المبارك.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة